من وحي العيد : الثقة والأمان.. والتفوق
يوم العيد يوم فرح.. هذا معلوم. لكن.. فرح بماذا ؟.
فرح بإنجاز؛ بالنجاح في شيء ما؛ هو بفعل العمل الصالح.
الفرح صفة لازمة للنجاح، والنجاح لا يأتي إلا مع الثقة والأمان.. ومسلوب الثقة والأمان بعيد عن النجاح.. بعيد عن الفرح..!!.
فكيف لقلق متضعضع أن يفرح ؟!.. وكيف لخائف مرتعب أن يفرح ؟!.
لم يأت رمضان، ثم يتلوه العيد ليعلما بم يكون الفرح فحسب، بل أتيا ليربيا ويدلا كذلك: كيف نسلك طريق الفرح، ونصل إليه: بأن نعمل صالحا، ونجد ونجتهد فيه.. وأن نزرع الثقة في نفوسنا بالله تعالى، ونبعد عنها الجزع والاضطراب. فهذا العيد هدية مضمونة، يفرح بها كل من صام، بلا استثناء. وكذا فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وكل الآيات تبشر بوعد متحقق ناجز لمن عمل الصالح:
- {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
- {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بإحسن ما كانوا يعملون}
- {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}.
- {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض}.
- والنبي عليه السلام يقول: (من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه أضمن له الجنة).
- ويقول: (من يتكفل لي ألا يسأل الناس شيئا، أتكفل له بالجنة). رواه أبو داود
كلها ألفاظ وعد محقق: لا أضيع.. أضمن.. أتكفل.. وحروف الجزم وصيغه.
فاطمئن أيها العامل لله تعالى.
* * *
قد يعجب المرء من هذا فيقول: وهل كنا نظن بربنا غير هذا ؟..
أليس العكس هو سوء الظن برب العالمين، وهو إثم المنافقين، والكافرين، والمشركين، قال تعالى:
- {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا}.
فعلامتهم سوء الظن بالله تعالى؛ أنه أراد بهم سوءا وشرا، ولا خيرا ورحمة.
والجواب: هو كذلك بشرط؛ إذا كانت الثقة المفقودة تعلقت بالرحمة الإلهية، فهذا هو علامة أولئك. أما إذا تعلقت بالنفس والعمل، فإساءة الظن بالنفس أنها مقصرة. وبالعمل أنه ناقص مختل، لا يليق بمقام الرب جل شأنه: فهذا حال أكابر أولياء، من: أنبياء، وصديقين، وشهداء، وصالحين. ما زالوا خائفين وجلين ألا يتقبل منهم، لا ضعف ثقة منهم بوعد الله تعالى، لكنها الخشية والوجل ألا يكونوا أحسنوا العمل. وقد ذكرهم الله تعالى فقال:
- {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}. قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله!، (الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)، هو الذي يسرق، ويزني، ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل ؟، قال: لا يا بنت أبي بكر، يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل) رواه أحمد 6/159
المؤمن يعمل العمل الصالح وبه ثقة كاملة بالثواب من جهة ربه، أما وجله وخشيته فمن جهة نفسه وعمله؛ أن تكون نفسه مقصرة في الإتيان بالعمل على وجهه، أو تكون على ذنب مانع من القبول كالشرك، وهي لا تشعر؛ ولذا فحن نستغفر الله تعالى من أن نشرك به شيئا لا نعلمه.
والخشية والوجل نوع من الخوف فيه رقة، فليس هو خوف يحمل على الهلع والجزع، الموصل إلى حد القنوط واليأس، وهما ذنبان عظيمان، من ذنوب أهل الكفر، كما قال تعالى:
- {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.
- {قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}.
فهذه مرتبة بين الخوف الشديد الممقوت، وبين الضعيف الذي لا أثر له. هكذا خوف المؤمن:
- {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}.
- {وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}.
- {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير}.
- {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.
وفي هذا يفارق المغرور؛ الذي قد نزع من نفسه الخشية والوجل، من أن يرد عمله. ليس ثقة بالله تعالى؛ بوعده وثوابه، بل ثقة بنفسه القاصرة، وعمله الناقص. فأين هذا من قوله عليه الصلاة والسلام: ( لن يدخل أحدا عمله الجنة، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته) متفق عليه.
* * *
تلك في الأعمال التعبدية، الثقة فيها بالله تعالى، وإحسان العمل، مع اتهام النفس بالتقصير.
أما الأعمال الدنيوية فلا يستحسن أن يغيب فيها الثقة بالنفس، لكن مع استصحاب التوكل على الله.
والفرق بينهما: أن حق الله تعالى عظيم، والنفس عاجزة، فناسب أن يركن المؤمن إلى عمله ونفسه.
أما عمل الدنيا فهذا مقدر بقدر، وفي قدرة وطاقة الإنسان، مساوٍ له في المرتبة؛ فالعمل يفنى، والإنسان يفنى، والعمل مخلوق، والإنسان مخلوق. فإذا وثق المرء بنفسه في حال ما إذا أتى بالعمل؛ أنه أحسن وأتقنه، فله ذلك.. كلا، بل لا ينبغي له إلا ذلك، إذا استكمل شروط العمل وواجباته.
فإن من أهم شروط النهوض بالأمة:
إنشاء أجيال واثقة مطمئنة، تؤدي عملها بثقة وطمأنينة إلى أنها تحسن، وتنجح، باتخاذ الشروط.
وهو أمر يجب أن يعنى به:
- الأب مع بنيه؛ أن يغرس فيهم الثقة بالنفس، والطمأنينة إلى إحسان العمل، والثقة بالنجاح.
- والأخ الكبير مع أخيه الصغير، الذي تولى أمره، لغياب أبيه بموت أو نحوه.
- والمولى مع موليته، الذي يتولى شؤونها.
- والمدير والرئيس مع موظفيه والعملين لديه.
- والحاكم والوالي مع رعيته.
فهذه من أعظم المسئوليات، وأعظم الرعاية، يحتاجها كل مهيض الجناح ضعيف، يبذله له كل متمكن قوي، صاحب سلطة، كبرت أم صغرت.
فبدون الثقة والأمن لن ينهض الفرد، وإذا لم ينهض لم تنهض الأمة.!!.
إن الضعيف، والصغير، واليتيم، والعامي، والعامل، والرعية كل هؤلاء فيهم من: التردد، والخوف، والضعة ما يمنعهم من التفوق، وليس عندهم الشجاعة الكافية لإبراز ما لديهم من مواهب خيرة، وقدرات نافذة؛ لذا فإن طريقهم إلى النجاح محتف بكل أشواك الفشل..
وهم بين أن يدمروا ويحطموا، أو أن يصنعوا على عين الأمة، فيكونوا نابغين يقودون الأمة، ويحتملوها في الأزمات.. فأي الهدفين أرجى ؟.
والإنسان صنيعة غيره، فغيره هذا إن كان شفيقا رحيما، فطنا ذكيا: فعليه أن يزرع فيه الثقة والأمن، ويكون ذلك:
بالإفساح له؛ ليعبر عن نفسه، وعن رأيه، ويتخذ مواقفه وفق قناعاته، ولا يكره على ما هو مجال الاجتهاد والاختلاف، بل يعان، ويشجع، ويدفع إلى ذلك دفعا، مع إظهار احترامه وتقديره. واجتناب كل ما يضاد ذلك، مما فيه استبداد، أو تحقير، أو استهانة، أو إذلال تحت ذريعة التربية، والأدب، والتأدب، وصغر السن، وقلة التجربة.. وكلها أمور سبب رئيس في تحطيم نفسي أبدي.
إن ذلك أعظم ما يطلب منه، حتى إنه لأعظم من النفقة نفسها، على عظمها، فمن أنفق مع نزع الثقة من نفوس المستضعفين تحته، فقد يكون قدم لهم طعام أبدانهم، لكن مع سلبهم عزة نفوسهم.
* * *
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه